عشيّـة

الساعةُ التاسعة إلا الربع، مساء الأحد. أجلس على الرصيف متّكئةً على عمود مظلّات المواقف التي لا تكون بهذا الفراغ طوال النهار، أسمع نعيق غراب، القمر المكتمل عن يميني، أفكر في كل الأشياء الآن وطوال الوقت بلا استراحة. ذهني مكتضٌ صاخب مزعج مشوّش مثيرٌ للتقيّؤ والبكاء والصراخ. أمشي بين الناس بهدوء وحواجب معقودة، أتمسّك بأطرافي لئلا تنساب مشاعري وعبراتي منها إلى الأرضية.
أشعر بكل شيءٍ فعلًا. بمشاعر لا تجتمع في البال الواحد في اللحظة الواحدة.
ولم تكن هذه قضيةً هامة لو لا أنني الآن بالذات لا وقت عندي لأي من هذا ولا حتى لأكتب ما أكتبه الآن. عندي امتحانات ولا شيء أبدًا أبدًا تحت السيطرة ولا حتى بمقربةٍ منها.
لقد حدث الكثير الكثير الكثير، أكثر مما اعتاد عقلي، المضطرب على الدوام.
أودّ لو أتقيّأ روحي الآن، هُنا. حيث لا يراني أحد ولا يسمع شهقاتي الأخيرة؛ غير القمر، والغراب، والاسفلت الذي سأتمدد عليه بارتياح.
كم أود أن أوقف كل شيء عن متابعة الأشياء، كيف تمضي الحياة بهذه الاعتيادية بعدما حدث كل ما حدث؟ ألا يحترم أيُّ شيءٌ أيَّ شيء!
أريد أن أستمر في التعبير عن رغبتي في التقيؤ والفناء؛ ولا أستطيع أبدًا الشروع في شرح الأسباب وسرد الأحداث. لقد تعبت. هذا ما أستطيعُ وأُجيدُ قوله.

اختبأ القمر المكتمل خلف المبنى عن يميني، تمر الآن فتاة وتمشي ببطء، لا تنتبه لوجودي، يختفي صوت الغراب فتتضّح أصوات كائنات الليل الصغيرة.

يمر وجه عمي عبد الله بأوضح ما تكون عليه الرؤى، يقف الآن أمامي ويصافحني بحرارة، يقول: بردانة؟
أرتدي شالًا بنفسجيًا ثقيلًا، أصبّ له ولزوجته الشاي. يجلس أمامي تمامًا، على أرائك غرفة المعيشة الخضراء.
أسمع صوته بوضوح.

يعود نعيقُ الغراب. لا أستطيع التركيز في فكرةٍ واحدة لأكثر من ثلاث دقائق.
آه لو أُخرِج عقلي وأرميه على هذا الرصيف وأرحل. 
آه لو يرنّ هاتفي الآن، أجيب لأقول الوداع لأي كان المتصل. ثم أنظر إلى السماء التي أرى فيها ضوء القمر ولا أراه، ثم ألفظ روحي المرهقة.
ولكن خطاياي. 
أين ستتوارى إذا خرجت روحي ولم يعد لها مأوى، ستتبعثر. سيراها كل أحد، بين قسمات وجهي الباهت وعلى أطراف أصابعي وحولي وعلى حافة الطريق.


رحل الحبيبُ 
وحسنُ صبري 
قد رحل.*

لقد رحل، مرّت اثنَينُ رحيله، واثنينٌ أخرى، وغدًا الثالثة.
لا لا لا
لم تستطع جثّته المتمددة وسط مجلس بيت جدي والجميع حولها ينتحب اقناعي برحيله الأبدي.
لا بكاء أعمامي المسموع ولأول مرة في حياتي كلها، لا اغماء زوجته فجأة أمام جثته، ولا امتلاء بيت جدي في الأيام التالية كلها.
لا لا
ولا حتى نحيبي أنا.
كل يوم.
 أول ما رأيت كفنه، في النهارات التالية على أرائك العزاء، كل ليلة على الفراش، وسط قاعة المحاضرات الممتلئة، ووسط فناء الكلية وأنا أعبر من مبنى لآخر.
ولا حتى نحيبي أنا أقنعني.

لم أعد إلى بيتنا منذ تلك الاثنين، لأن العزاء أقيم في القرية، وقد مرت عطلتي أسبوع لم أعد إلى البيت فيها، لا أستطيع الاستيعاب تمامًا ما الذي يعنيه أن أعود إلى البيت ولا يُطرق جرس الباب في مساءٍ ما ويقال: ”جاي عمي عبدالله وعموه محفوظة!“
لا لا لا
أظن أنه سيأتي كما اعتاد، لو أعود إلى البيت فقط لأتأكد!

إذًا..
ماذا عن شاطئ السيب؟
ألن يأتي عمي هو وبساطه ودراجته الهوائية وعائلته الصغيرة اللطيفة بكل بساطة وخِفّة؟
فنتناول الإفطار ونشرب الشاي معًا؟ كما اعتدنا في صباحات عطل الأسبوع؟

و بيته
بيته الصغير الدافئ
الذي لا تسعه بهجته الغامرة كلما زرناه.
بيته، وحديقة فنائه البديعة.



لقد كان الغروب واضحًا أكثر من اللازم عبر نوافذ السيارة ونحن في الطريق.
واضحًا كأنه يفرض نفسه.
 غروب.. لا يعود بعده شيءٌ كما كان حتى لو أشرقت الشمس.
الصمت يعمّ السيارة.
نشيج خافت. 

لقد مات، وأقولها وأنا لا أفهمها، عصرًا، ووُضِعَ جسده بانتظار إخوته كلهم ليأتوا من بيوتهم وأعمالهم البعيدة ساعتين على الأقل عن القرية، قبل أن يُدفن.
وصل الجميع واحدًا تلو الآخر بحدود العِشاء، كان النحيب جديدًا تمامًا على هذا البيت، وهذا المجلِس بالذات، الذي اجتمع هؤلاء نفسهم فيه في كل الأعياد.


سار الحبيبُ
عن الديارِ عشيةً
خلع الدُّجى 
حللًا
على تلك الحلل.*

أريد أن أصحو وأبصق على يساري وأتعوّذ من هذا الكابوس بأكمله.


 إذا لم يكن ممكنًا، أريد أن أغفو، ولا أستيقظ أبدًا.

تعليقات

  1. يصعُب عليّ مدح ما كتب بحبر الدموع، لكن إذا كان الأدب هو ما يوقظ مشاعر القارئ ويعبث بها فأنتِ أديبة حقيقيّة.

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

وداع ونجوم وقطّ أسود - مذكرات

ضجيج .