وداع ونجوم وقطّ أسود - مذكرات

٢٥ أغسطس ٢٠٢٠

مرحبًا ومساء الخير وسنة قمريّة جديدة سعيدة!

أجلس الآن على سطح البيت وأتحسس هواء المساءات الصيفية على وجهي، قمرُ السنة الجديدة ساطعٌ جهة يسارِ بيتنا، هناك غيماتٌ متفرّقة ونجومٌ تُضيء رغمًا عن مصابيح العاصمة الصاخبة. الأشياء والكائناتُ من الأعلى ليست ضئيلةً فحسب؛ بل مُثيرةٌ للاهتمام والتعرُّفِ من جديد. أهمها حاليًا هي قطةٌ سوداء جالسةٌ بوَقار على خط التقاء جِدارَيْنا نحنُ والجيران، تُراقب الآتي والذاهِب؛ بتأمُّل وحِكمة عجوزٍ ينظر إلى الحياة التي عرفها طويلًا، وعرف الدوافع وراء ما يفعله الناس، والمعنى من اتجاه الريح وكثافة الغيوم وقربها، وعُمرِ الأشجار وما إذا كانت ستثمر في موسمها الآتي

أُقاطع كل ما تفعله القطة الوقور هذه وأقول على بُعدِ طابَقَين منها: ”ميااو

فتلتفتُ ببطء باحثةً عن مصدر الصوت ولا تجده، فأقول بصوتٍ أعلى وأبشعمياااو!“ فتلتفتُ هذه المرة باستفزاز وتبحث، ولا تجد، وأستمرّ وأضحكُ كالمجنونة أعلى سطحٍ أَرى منه ولا أُرى.


اليوم نحنُ في الأسبوعِ الأخير من أغسطس عشرين عشرين، بعد أن ضغطت الحياةُ على مكابِحِها فجأةً وبقوة مُنتصف مارس الماضي، فتبعثرنا مُمسكين بظروفُ حيواتنا الصغيرة. فجأةً أُغلِقت الأبواب وكُتِمت الأصوات الحقيقية وحُرِّمت المصافحة على الأيادي وأوقفت اللقاءات كلها، فلم يبقَ إلا الشاشات الملساء نلمسها ونحاول إمساك أي أيادٍ بشريةٍ من خلالها

فكان أجدر ما يقال ويُدندن هو قصيدة الطلاسم لايليا أبو ماضي كاملة.

أأنا السّائر في الدّرب أم الدّرب يسير

أم كلاّنا واقف والدّهر يجري؟

لست أدري!“

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ





١٦ أكتوبر ٢٠٢٠

من أي جهات بيتِكم تغرب الشمس؟

سؤال تعارفٍ مقترح.

تشرق الشمسُ لدينا من وراء البيت، وتغربُ من أمامه نحو اليسار، من جهة شُرفتي. وهي أيضًا جهةُ قِبلةِ الصلاة؛ لأننا نقعُ في نقطةٍ من هذا العالم تكونُ غرب مكة المُكرمة، المُقفلةُ بالمناسبة، إنه الوباء يجتاحُ العالم. هل وصل الوباء إلى بيتكم؟ لقد وصل بطريقةٍ مجهولةٍ إلى بيتنا وكنتُ أول من ظهرت عليه الأعراض. أنا محور قصصي بطبيعة الحال، لكنها الحقيقة. كانت بؤرة عدوانا هي بيت الجد، لقد كنّا كُثُرًا. مرِضَ وتعافى الكُثُرُ إلا رأسهم. وبعد أقل من شهرٍ من تفشي العدوى بيننا، يرفعُ اللهُ روح جدي إليه، بهدوء وسكينة، في فجر جُمعةٍ ما

لن أسهب في الحديث عن الأمر، سأحاول، ولا عن تقريره الطبي، الذي كنت مهوسةً بتحليله حدّ الهلع. لطالما آمنتُ أنه كان يمكن أن ننقذه لو تمكنّا من إعطائه عضوًا، كليةً أو كبدًا، أو حتى قلبًا. كان يمكن أن ننقذه. لكن والِدي وإخوته لم يُفشوا ما قاله الطبيبُ طلال في مستشفى قريتنا. لم يقولوا إلا جملًا لا معنى لها توهمنا أن الوضع مستقرّ. ما معنى الاستقرار أصلًا؟ الوضع مستقرّ. ادعوا لجدكم. الوضع مستقرّ. بينما كانت أعضاؤه تفشل واحدًا تلو الآخر بسبب كائنٍ لا يُرى. كان يمكن أن ينقذه أحدنا.. لا؟ ربما لا. أعرف أنه لا.

لن أسهب في الحديث عن جدي. أحاول. مر شهرٌ وأكثر. أدرسُ الآن موادًا رهيبةً ومعقدة في السنة الخامسة من الطب؛ علم الأمراض، علم الأدوية، علم المناعة، علم الأحياء الدقيقة.. إلخ

ولا أيُّ مادةٌ، ولا حتى واحدة، تكفّ عن تذكيري بجدي.


لنحاول البدء من جديد.

من أي جهات بيتكم تغربُ الشمس؟

هل تهتم بالغروب؟

هل تفتح نوافذ غرفتك؟ نوافذ السيارةِ على الأقل؟

كيف تقضي وقت الحظر الليلي؟ لا تكن سخيفًا أرجوك.


/


في ذلك الصباح، الأولِ على صعود روحه، قالت جدتيعبدالله.. ولدي، راح عنّا أبوك. جاك أبوك؟

وعبدالله هو ابنها الذي مات قبل أبيه ببضعة أشهر.

كانت صالةُ البيت أكبر مما كانت عليه منذ عرفتُه. كان المكان خاليًا تمامًا -رغم كثرتنا- بدون جلوسه على أحد أرائكه، أو عبوره من غرفةٍ إلى أخرى، أو قدومه من السوق بصناديق الخضار والفواكه، أو علب الفاصولياء التي يحبّها.

كنا نجلس على الأرض جميعًا، نُحيط بجدتي المتمددة، كان صباحًا باكرًا، كان النشيجُ خافتًا.

لم يتناول أحدٌ الفطور، إلا فتات خبزٍ أُرغِمت الجدّةُ والعمّاتُ عليه قبل تناول حبّةِ الصداع


زياراتُ مَلَكِ الموتِ مختلفةٌ تمامًا عن بعضها. هناك الفاجعة، هناك النحيب، هناك النشيج بلا صوت، هناك الشرود، هناك الانفصالُ عن الواقع والتصرف كأنه يومٌ عاديّ. هناك المصيبة التي تكبر كلما مر عليها وقتٌ أكثر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ





٣٠ أكتوبر ٢٠٢٠

أن يموت جدك،

يعني أنك تكبر، يكبر الجميع، يقترب كل فردٍ من ساعة موته

الموت الذي لا مفر منه ولا تَنَبُّؤَ به.

يعني أنك كبرت، وأنك توشك أن تواجه الحياة وحيدًا. حياةً جافة وسريعة وقارسة.

أن يموت عمٌ ما، وهو في بداية الخمسين، بجلطةٍ في القلب بلا سابق إنذارٍ ولا أي مرضٍ سابقٍ أو حتى لمحةٍ عن اقتراب الموت؛ يعني أن الموت قريبٌ ومُحيطٌ طوال الوقت. لا تفسير له. ويعني أنك ناجٍ، هذه المرة.


حين مات جدي. رضينا. بكَينا بِهدوء ودموعٍ حارّة، نكاد لا نُسمَع. لم تكن فاجعةً، لأننا جرّبنا الفاجعة، كل شيءٍ مُختلف.

لم تُحضَر جُثّة جدي إلى بيته، إنه بروتوكول الوباء، مع أن كل من في البيت أُصيب وعوفِي، لكن حُرِمنا استقبال الجثة

قبل سبع أشهرٍ عندما مات عمي ووضع أمامنا، كنت أجلس بجانبِ جسده البارد وأنتحب ويداي مضمومتين. لم أتجرّأ على لمسه أبدًا. رأيت ابنته تحتضنه، ورأيت ابنة عمي الآخر تُقبِّل جبينه. رأيت كل أحدٍ يلتصق به ويمسح عليه.

ثم أُخِذ.

بعد يومٍ، ويومين وشهر وإلى الآن، كنت أقضمُ قلبي ندمًا أنني لم ألمسه! لم أقبل جبينه، لم أمسح على وجهه، لقد خِفتُ من لمس جسدٍ بلا روح. أنا التي اعتدتُ على أجسادِ مختبر التشريح؛ خفت من لمس وجه عمي الأليف السمِح. ندمت لاحقًا ندمًا يحرق أصابعي، كان يجب أن ألمسه اللمسة الأخيرة إلى الأبد.

قلت حينها أنه لو زار الموت بيتنا مجددًا، وعسى ألا يزور أبدًا. لكن لو زار، لن أفوّت الحضن والقبلة الأخيرة

لقد زارنا

وخطف روح جدي،

ولم أحظَ بفرصة توديعه ولمسه أبدًا.

أرعى تعبي الآن بضحكته التي لا تفتؤ ترنّ في أذني، في خضم أي شيء يحدث.

يضحك في أذني أحيانًا، أو ينادي اسم جدتي بنبرته المتفرّدة،عايشة!“.


أربّتُ على قلبي بأن أنظر إلينا، فنحن نشبهه أحيانًا.

أرعى تعبي بتذكُّرِ يَدَيْ جدي،

التي صافحتها لإثنين وعشرين سنةً من حياتي، لا تزيد. فقد دُفِن ودفنت يَدَاه، بعد أن وِخِزت بإبر المستشفى الكثيرة.




ــــــــــــــــــ

بعد انقضاء العزاء وخلوِّ البيت الكبير شيئًا فشيئًا، بقيتُ فيه أكثر لئلا أشعر أني تركت جدي للنسيان، لم أكن مستعدةً لمواصلة الحياة. كنت أصعد للأعلى باكرًا، غرفتنا في السطح. في الواحدة تمامًا أخرج وأتنفس. فأجدُ في الأعلى حفلة نجومٍ، كأن علبة لمّاعٍ تسرّبت في سقف السماء، وأفكر في كل ما أرى في السماء وما لا أرى، أفكر في جدي وكل ضحكاته ومرات ندائه لاسمي. لن يعود جدي، كما لم يعد عمي، إلى البيت.

"فتستفيق ملء روحي نشوةُ البكاء

ورعشةٌ

 وحشيةٌ 

تُعانِقُ السماء..“

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ





٢٣ نوفمبر ٢٠٢٠


أنا والوقت


اليوم أصدرتُ صوتًا حادًا يعبر عن استغرابٍ واستياء واضحَين عندما أخبرتني الصيدلانية أن هذا الدواء لن يتوفر إلا شهر ديسمبر. باعتبار أن علاجي سيتأخر وستسوء الأمور وإلخ. بعد بضع دقائق وأنا في الطريق إلى البيت استوعبت أن (ديسمبر) بعد بضعِة أيام، أسبوع بالتمام. وأنا التي ظننت طوال الوقت أن ديسمبر بعيدٌ بعيدٌ كالنهاية.

بطريقةٍ مربكةٍ وصامتة، ينسلّ الوقتُ. غير آبهٍ ولا متردد. بانتظامٍ، بخِفّةٍ وثقل معًا، بلا شعورٍ أو رأيٍ عن شيء. يمضي، مجرّدًا.

عندما كنتُ أحسب الأيام يومًا بعد يوم وشهرًا بعد شهر وأتلذذ بالانتصار على التواريخ وهي تتوالى وتتبدد، لأني ما زلت قادرةً على الوقوف والمراقبة والتجاوز، رغم فقد قطعٍ مني وضمِّ أخرى، ولأن مُضيّ الوقت يعني قدوم النسيان، وأنا أريد هذا الآخر بشدّة.

عندها كان الوقت مُتأنيًّا في مشيِه، وكانت انتصارات مروره متباعدة عندي. أما مؤخرًا (ولا أعرف كم بالضبط تساويمؤخرًاواحدة) نسيتُ الوقت وأنا أعيشه، ونسيت الدرب وأنا أمشي عليه، ثم عدتُ أتذكره بغتةً لأجده قطع شوطًا طويلًا بهدوء.


عندما قيل لي مرارًا أنني أصبح أحلى كلما كبرت، تمنيت أن يمر الوقت بسرعة وأصير فتاةً أحلى وأحلى. عندما أدركتُ كم تشوّقني حياة التطبيب والمُداواة، تمنيت أن أكبر بسرعة لأصير طبيبةً بسرعة. وعندما لاحظت أن أختي الصغيرة بدأت تكف عن كونها صغيرة، تمنيت أن يتباطأ الوقت لئلّا يخلو بيتنا أبدًا من الصغار. عندما رأيت شعر أبي المتبقي يأكل أبيضُهُ أسودَه، خفت من مُضيّ الوقت. عندما عرفت أعمار الكبار في العائلة، ارتعبت من أن نكبر أكثر. عندما مضى الوقت وخَفُتَ انبهاري بأشيائي المفضلة، قلقت من مضيه أكثر وانعدام انبهاري. عندما لاحظت أنني كلما كبرت انبهرت من جديد بأشياء جديدة، أردت أن أكبر لأكتشفها.

بعد أن مات جدي بمدة، أصابني أشدّ هلعٍ جربته من فكرة الزمن.

فالزمن بمروره لا يقرّب الموت فحسب، بل ينسينا الموتى.

أنظر إلى كفّي كل يوم وأستذكر كل ما أستطيعه لملمس كفّيه، مجعدَّين، تنحشر كل السنين بين خطوطهما، دافئين، خشِنَين وحنونَين في آن. كان يستخدم كليهما للمصافحة، فهو يضمّ كفّ الشخص المقابل بكفّين اثنين

أخاف أن أنسى ملمس يديه.

أخاف مع الأيام أن ينسى الأطفالُ صوته، أو ينسى الكبار أطعمته المفضلة، أو تنسى كل أريكةٍ في بيوتنا طريقة اتّكائه، أو تنسى عصاه قبضته وخاتمه الفضّيّ فيها


أخاف من النِسيان بقدر ما أحتاجه.

تعليقات

  1. تجرُبة الكتابة هُنا تجعلُك تطمع. ننتظرُ ❤️

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عشيّـة

ضجيج .