يوميات كئيبة متفرّقة

يا لهُ من مساء سبتٍ مناسب للكتابة.
كل مساء سبت، هو مساء مناسب للكتابة، إنها مساءاتٌ درامية بالضرورة. وأنا في الطريق إلى السكن الداخلي، وقد قررت الآن أن أكتب.
وقد كنت أقرر هذا القرار بالضبط منذ شهور ولكنني لا أشرع في تنفيذه، فأنا أستثقل كلماتي، لا تبدو متناسقة ولا تعني لي كثيرًا بعد مدة. تبدو من كيانٍ مختلف لا يخصني، وهذا مثيرٌ للاحباط لأقصى ما تتخيل.
 فأنا لم أعنيـ(ـني) منذ زمن.
ولا أعرف كيف يعني شيءّ امرءًا لا يعني شيئًا لنفسه.
أمضي كل يوم وأتعامل مع أشخاصٍ لا يعنون لي شيئًا غالبًا، أقول كلامًا لا أشعر أنه يمثّلني، أضحك مع الضاحكين على أشياء لا تضحكني أنا، أخوض حواراتٍ لا تهم، أضيّع وقتي في المجاملة. أقسِم، ثلث يومي يضيع في مجاملةٍ محضة! وهذا مستنزفٌ للطاقة.

جلست صباح اليوم على سرير أمي وقلت وسط انشغالها بصوتٍ متحشرج: "ماما تعبت"
تجيب أمي، وقد اعتادت ولم تتفاجأ من الخبر: تذكرين تلك الآية؟ لا بُد من ابتلاءات.
"أنا ليش اخترت هذا الابتلاء بالذات؟
- أي؟
- أني أطلع من البيت!


إنني أعاني، ولا أتأقلم. ولا أحاول أن أتأقلم.في الحقيقة أنا أحارب التأقلم بكل قوتي. لا أريد أن أعتاد أني مسكينة! أريد أن أبقى أحاول أو على الأقل أنتظر انقلاب الأحوال.
إن آخر سنتين من حياتي كانتا كابوسًا ممتدًا، أندمج فيه أحيانًا، وأنتبه أحيانًا أخرى للصورة كاملة. إنني في مصيبةٍ طويلة اسمها العيش خارج البيت.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


مساء الخير.

إنه يوم اثنين هادئ وباهت. السماء باهتة للغاية وتكاد تكون بيضاء. لم أرَ البحر اليوم لكنني أجزم أنه باهتٌ كذلك، ماؤه راكد وليس في لونه من الزرقة شيء.
الوقت بطيء.. أو ربما سريع بطريقة مستفزة، فقد انتصف النهار ولم أنهِ أكثر من ورقتين من أصل ٤ ورقات من أصل ٧ محاضرات لليوم من أصل ١٨ لقبل الامتحان.
المشكلة الأولى أن هذه مادةٌ لا تُحلّ بالتأليف، والمشكلة الثانية أنني لم أحصل على درجة جيدة فيها في امتحان نصف الفصل، ولكن عمومًا عليها ثلاث ساعات ولن توثّر في معدلي كثيرًا. أما مادة الخمس ساعات فقد بذلت كل ما بوسعي ليومين كاملين بالإضافة إلى صباحٍ كامل، المشكلة هنا أن (وسعي) الذي بذلت كل ما فيه لا يكفي، ولكن من جهة أخرى…
أوبس :) استعدت تركيزي لتوي، أعتذر لم أكتب تحت عنون: الهموم الدراسية ولكن المرء إذا بدأ من الصعب أن يتوقف.
أرأيت؟ لا قصة لدي غير الدراسة. وفي هذا مشكلتين: الأولى أنني أثبت نظرة الناس الخاطئة أنه لا حياة لطالب الطب خارج دراسته. والثانية، والأسوأ، أنني أبدو كأن الدراسة شُغليَ الشاغل، ولكنني في الحقيقة فاشلة دراسيًا ومعرّضة للرسوب في أي لحظة وفي أي مادة، حرفيًا.لكن لا بأس. أتفهّم أن هذه هي الحياة، ولست شخصًا فريدًا سيُعفى من تعاساتها.
وبالحديث عن التعاسة، لم يكن العلم أمرًا تعيسًا لتلقّيه أبدًا. أبدًا أبدًا.
العلم شيءٌ برّاق. أخّاذ، مثير، ممتع، سامٍ وعالٍ، وهو شاهق وشاق.
ولا معنى للعيش دونه. وأنا أحبه وأغرق فيه وأنا مسرورة وشغوفة.
ولكنني أتحدث عن أمورٍ جانبية ترهقني وتستنزف طاقاتي.
إنني أشتاق عائلتي. أشتاق بشكل مرهق، ومُمرض، جالبٍ للانطفاء والانطواء.
ولا أنكر أن شعوري الآن أهدَأُ بكثيرٍ مما كان عليه قبل سنة، ولكن قلب المشكلة باقٍ ولا يمكن تجاوزه إذا ما تجلّى.


أكتب في صباحات أيام السبت التي أمكث فيها في (المنفى) قائمةً بما أحتاجه وأبعث بها إلى والديّ.
  • كرواسون الي داخله تشوكلت مرّ، وأوضح قائلةً أنني أريد الذي من (كارفور) حيث أنه بعيد عني ولا وقت لدي للذهاب لكنني أشتهيه.
  • مصباح غُرفتي ستجدونه على المكتب، أظن أنه مغطى بالغبار، أعتذر على الأذى مقدمًا
  • ڤكس! ماما ڤكس! ما أصدق أني كبرت لدرجة أطلب ڤكس لكنه الحل الوحيد لهذا الزكام الكريه!
  • پندول وستپسلز وأي شي تعرفوه يخص الزكام.
وأكمل، وأكتب، وتمتد القائمة ولا أشعر أنني كتبت ما أحتاجه فعلًا.
وأفكر ما الذي أريده حقًا. ولا أعرف..

ثم يأتي الليل، يتصل بي المبعوث أن حاجيّاتي وصلت.
أجد حقيبةً كبيرة، بل ضخمة. آخذها إلى غرفتي، أوصد الباب لأني لدي توقّعًا لما سيحدث.
أبدأ بإخراج الحاجيات واحدةً تلو الأخرى، وأجد أن ما طلبته فعلًا يشغل ربع الحقيبة فقط، ويشغل بقيتها ما لم أطلبه. فيحدث توقعي، سأبكي.
فكلما أخرجت غرضًا لم أطلبه أصلًا ولكن أمي تعرف أنني أحبه أبكي، أجد أعدادًا مضاعفة من الغرض الواحد الذي كتبته، أبكي، أجد علبة طعامٍ شهيٍّ من البيت، أبكي، أقضي عملية إخراج وتصنيف كل هذه الحاجيات وأنا أبكي.

أبكي من الامتنان، أبكي لما أنا عليه، أبكي لأنني اشتقت، أبكي لأنني تذكرت ما رغبت في كتابته في القائمة ولم أعرف؛ هم، البيت، الاطمئنان فيه. وأبكي الآن وسط المكتبة لأنني تذكرت شعور تلك الليلة كله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


مرحبًا! إنه ظهر خميسٍ بارد، ولقد كنت أفكر..
لو كنتُ في البيت طوال الوقت، ما الفكرة التي سأهرب بها من كل هذه المآسي؟


أنا بعيدةٌ عن البيت، حسنًا، بعيدة نسبيًا. هناك من هو أبعد عن بيته مني.
وهذا البعد، الغُربة، أيًا كانت حدّتها أو تسميتها، تغير المرء -ولن أبالغ لو قلت- كُلّيًّا. تفعل به شيئًا، ربما تبتلعه وتتقيّؤ للوجود مرءًا آخر. أو أبسط بكثير؛ يَشغَلُ البُعدُ المرءَ بأعباء لا نهائية عن نفسه، حتى إذا عاد إليها لم يعد يذكر من هذه، ولا يعرفها.
والحديث في ذلك سيطول، والخوض فيه قد يثير الغدد الدمعية ولست بصراحة في وضعٍ مناسب، ونادرًا ما أكون، (ولكنها على أي حال تتفجّر دون مشورتي. حتى في منتصف محاضرة أو مكتبة هههه)
عمومًا. كلما وقعت في ورطة كبيرة، أو صغيرة، أو حتى خيبة أمل عابرة، أو لم أجد طعامًا كريمًا أتناوله، أو خسرت عشر درجات، أو درجة، أو أي نوع من مضايقات هذه الحياة صغيرها وكبيرها قلت: عادي، بروح البيت.
وهنا تتنوع انفعالاتي، فإذا كان يوم أحد، سأكتم ما استطعت، ولا أظهر للناس ولا حتى لنفسي استيائي أو سببه، وهكذا مع يوم الاثنين وربما نهار الثلاثاء، بحلول مساء الثلاثاء تقريبًا يبدأ صبري ينفد، الأربعاء يوم الغضب، الخميس انهيارٌ تام. والبيت هو الحل. وذلك كان مثالًا لأسبوعٍ نموذجي، ولكن التغييرات ممكنة.
قد يتقدم الانهيار وقد يطول الصبر. المهم أن الساعة الثانية ظهرًا يوم الخميس هي الحل.
لأنه فيها يبدأ طريق البيت
البيت.
حل لكل شيء. الجوع، خيبات الأمل، الاحباط، الغباء، الفراغ العاطفي، عدم الانتماء، الحزن. وقائمة طويلة لا تنتهي.
لا يهمني لو مكثت في البيت عطلة نهاية الأسبوع ولم يُعالَج غبائي الدراسي مثلًا، المهم أنني فور تعرّضي لاحباطٍ من غبائي في الأسبوع الجديد سأصمت وأنتظر وقت الرجوع للبيت.
وهذا يصبح مَرَضِيًّا أحيانًا وأنا أعترف. إنني أعامل فكرة الرجوع كما يعامل مدمن المهدّئات مهدّئاته، يمر على مشاكل يومه كلها دون التفكير حتى في حل، لا حاجة لإيقاف المشكلة ما دام سيسكن الألم!
هنا المشكلة فعلًا؛ الهرب المؤقت.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

وداع ونجوم وقطّ أسود - مذكرات

ضجيج .

سأضحك وأنا كبيرة