الحيرة والعشرين




سؤال: لو كان عندك مقدار محدود من الجهد لتبذله في واحدٍ من أمرَيْن؛ هل ستفضّل استهلاكه في مقاومة ارتكاب خطأ، أم في التستّر عليه بعد ارتكابه؟
دعني أصغ هذا بطريقة ثانية. أنت إنسان، ومثل نسبة كبيرة من هذا النوع من المخلوقات أنت مُحاط بأناس يهتمّون لأمرك أو على الأقل متّصلين بك بطريقةٍ ما، جينيّة أو اجتماعيّة أو أي نوع من الصلات بين الناس.
إذًا غالبًا أنت لست حرًا في خياراتك بنسبة ١٠٠٪، حيث أن نسبةً منها يجب أن تكون مُراعيةً للمرتبطين بك (كالعائلة مثلًا). في حالةٍ كهذه، كيف تتعامل مع أخطائك؟ تختار ألّا تفعلها أصلًا؟ أم أن تبذل بعض الجهد في جعلها سريّة؟

بدأتُ أخيّر نفسي كل مرة بين هذين الخيارين، ولم يكن لدي قرار ثابت.
أحيانًا أضع ”الخفّة“ فوق كل شيء. شعور الخفّة والهدوء والسكينة. أن أكون بلا أثقال على كتفي (أو لنقل على قلبي بما أنه تشبيه على أي حال؛ فلنختر الأكثر شاعِريّة). وهذا يعني ألّا أكون بحاجة لأتستّر ولا أواجه أي اتهام ولا أوضع في موقفٍ أدافع فيه عن نفسي. يعني: ”أَبْعُدُ عن الشرِّ وأغنّي له“. (بصراحة ألم يخترع العرب جملة أفصح من هذه لنصف موقفنا ونحن نتفرّج على الشر عن بُعد؟ أعني، هذه كلمات أغنية سمعتها أول مرة في بيت عمي القديم قبل ١٢ سنة على الأقل!)

عمومًا. إجابتي المحتملة الثانية لذلك السؤال هي ولعي بالتجارب الخطيرة. فلتذهب الخفّة إلى الجحيم. أريد أن أجرّب كل ما أستطيع أن أجرّبه قبل أن أشيخ وعقلي أجوف وغدّتي الكظرية معطّلةٌ خرِبة.
لدي حياة واحدة، واحدة! وشبابٌ واحد ومؤقت! لما لا أجرّب كل شيءٍ ممكن؟
يبدو هذا مسليًّا.
ولكني أيضًا لا أريد أن أخيّب أمل أحدٍ فيّ.. أحدٌ يهمني أمره.


أفكّر في هذا كله وفي رأسي صوت محمود درويش يقول
"كم أَنت حُرُّ أَيها المنسيُّ في المقهى!
فلا أَحدٌ يرى أَثَرَ الكمنجة فيك,
لا أَحَدٌ يحملقُ في حضوركَ أو غيابكَ,
أَو يدقِّقُ في ضبابك إن نظرتَ
إلى فتاةٍ وانكسرت أَمامها..
كم أنت حُرُّ في إدارة شأنك الشخصيِّ
في هذا الزحام بلا رقيب منك أَو
من قارئ!
فاصنع بنفسك ما تشاء، إخلعْ
قميصك أو حذاءك إن أَردتَ، فأنت
منسيُّ وحُرٌّ في خيالك، ليس لاسمكَ
أَو لوجهكَ ههنا عَمَلٌ ضروريٌّ. تكون
كما تكون.... فلا صديقَ ولا عَدُوَّ
هنا يراقب ذكرياتِكَ"

حسنًا. يستخدم الناس التدوين لأغراضٍ عديدة. يكتب أحدهم ليوصل رسالة، ويكتب آخر بغرض البوح والفضفضة لا غير. ويكتب ثالث ليعظ أو ينصح. أو ربما لمجرد التوثيق.. هذا ما أدرِكُهُ على الأقل. يسرّني أن أكتشف أهدافًا أكثر للكتابة.
وأنا الآن أكتب لأوجّه أسئلتي لأحدٍ غيري، فالأمر يصبح مُلِحًّا وعمرك عشرين، ناضج ونيء، مُدرك وغافل، في المنتصف، وفي النهاية وفي البداية. 

لطالما مُنِعتُ من أشياء لم تبدُ منطقيّة آنذاك، وبعضها إلى الآن. كانت أمي تمنعني من الكتابة على كفّي منعًا باتًّا، لدرجة أن الوشاية بي إذا فعلت من نشاطات بنات أعمامي المفضلة، اللواتي لم يكنّ محروماتٍ من هذا المتعة بدورهن. كنتُ أُكشَف وأُعاقَب حتى لو غسلت بماء وصابون ثلاث مرات بعد فِعلتي.
ولكنّ الأيام مرّت.. وشاخَ هذا القانون وصرت أرسم على باطن كفي شيئًا فشيئًا إلى أن لم تعد أمي تبالي، أو تلاحظ.
وفي هذا المثال، السؤال يقول: هل كان الرسم على اليد بأقلام الحبر خطأً؟ كيف؟
ربما يضرّ حبر الورق الجلدَ فعلًا؟ لست واثقة، ولكن، إلى مدى كان ذلك ضارًا؟ وهل أيادي الأطفال المحرومين من الرسم عليها أصحّ من أيادي المسموح لهم بأي شكلٍ من الأشكال؟
أم أن الأمر كلّه يتعلق بالمنظر العام؟ كانت أمي امرأة مبالِغةً في النظافة والترتيب. حتى أنني إذا تذكرت منزلنا القديم لم أستطع استحضار صورةٍ غير واحدة يجلس كل شيء فيها في مكانه نظيفًا منظّمًا. حتى نحن، وشعرنا الناعم، وأماكن لُعَبِنا المُراقَب ترتيبها يوميًا.
هل كان الأمر كذلك؟
وضعُفَ أمرُ أمي حين بهُت شغفها؟

إنني أفكر دائمًا، في قراراتي وأفعالي الرمادية، ليس واضحًا تمامًا إن كانت بيضاء صائبة أم سوداء خاطئة.
وأستذكر وأحلّل جميع ممنوعات والِدَيّ، هل هي خطأٌ فعلًا؟ وأي نوع؟ خطأٌ ديني قاطع؟ أم مجتمعيّ فحسب؟ أم كان منعًا لحاجةٍ في نفس أحدهما؟
هل كان ليسبب ضررًا حقيقيًا لي؟ أو لغيري؟ وإلى أي مدى كان الخطأُ خطأً؟ هل كان خطأً كليًّا أم جزئيًا؟ أليس فيه منافع للناس وربما إثمه أكبر من نفعه؟ وهل ضرره على المدى القريب أم البعيد؟ وهل هو خطأٌ من النوع القابل للإصلاح؟

نادرًا ما يفسّر والداي ممنوعاتهما، وإذا فَعَلَا فما أندَرَ أن أقتنع. حتى آخر مرة سردتُ لأمي موقفًا عابرًا مررت به، سألت باستنكار ”وفعلتِ كذا؟؟“
وطلبت مني ألّا أفعل ذلك مجددًا، ”ماما ليش؟“
”ماما خبريني بس عشان أتوقف باقتناع!“ تجيب أمي ”ممكن تحترمي رغبتي بس؟“
أومئ بالموافقة، وأفكّر.. هل يكفي الإنسانَ الاحترامُ ليقاوم ويكفّ عن أشياءٍ لا يرى فيها خطبًا؟ لا يعجبني هذا النوع من المنع. ولكنني أمتنع ما استطعت. لست متأكدة كم يضطر الآباء لفعل هذا، هل هو ضروري؟ ألّا يفسّروا كل شيء؟ 

عندما نكبر، لا يظلّ الرسم على اليد بقلم الحبر ممنوعًا، لكن أشياءً أخرى تكون.
إنّ في داخلي طاقة هائلة، بل طاقات، وإنني أُحاول توجيهها بحكمة، في الأماكن الصحيحة وبلا ضررٍ أو ضِرار. أحيانًا لا تكون الأماكن الصحيحة واضحة، ولا الخاطئة تبدو خاطئة. فأتوه.
أحيانًا أدل طريقي وأحيانًا لا.
وهناك المجتمع طبعًا. كيف نسيته؟ رأيُه في تصرفاتنا. امتناعنا عن ما يريح أو يُبهِج للمحافظة على شيء يسمّونه (السمعة). أو هربًا من شيء كريه اسمه (لفت الأنظار).
ولن أتورّط بالخوض في الأمر.
ما الذي كنا نقوله؟
اه
الأخطاء
والتجارب
واللا ضرر ولا ضِرار
والحيرة
وعمر العشرين

والطاقات المكبوتة تصارع المراعاة والاحترام..

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

وداع ونجوم وقطّ أسود - مذكرات

عشيّـة

ضجيج .