بيتُنا قريب

"بمسخصص.. يعني بركاء، المصنعة، السويق، الخابورة، صحم واااا أخيرًا صُحار" يعدد أبي الولايات التي سنمرّ عليها في الطريق من بيتنا إلى مقرّ الكليّة.
____
نصل، أشعر بتوترٍ شديد، أشعر أن أغراضي أكثر وأنا أثقل.
ينزِل أبي كل أغراضي بحذر ويضعها فوق بعضها،
أستدير نحو كل الجهات وأستوعب.. آباء، حافلات، حقائب كثيرة، ثلاجات وعلب ماء.
يقف بابا حين ينتهي تمامًا، ينفض كفّيه، "بابا جبت الكيسة الصفراء ماما حاطة فيها تمر!" يردُّ بالإيجاب، يقف وينظر إليّ، يقف الصخب كلّه ولا أسمع وأرى إلا أبي.
“..واهتمي بنفسش وكوني مجتهدة… وصح! لو احتجتي أي شيء ترى عادي أجي من مسقط أي وقت نزين بابا؟"
أقف على أطراف أصابع قدمي لأصل إليه، أحضنه، يمضي، وأمضي..

___________
نصفّ أنا وغيداء رفيقةَ الغرفة حاجيّاتنا في غرفتنا المشتٓرٓكة؛ بسكويتاتٌ كثيرة، كورن فلكس، أكياس شاي لبتون، مكسّرات، معمول.. مقلاة للاحتياط، اسفنجة غسل الصحون، منظّفات تنبعث منها رائحة الصبّار..
نصل إلى المكتب.. أقف أمام مكتبي بوقار، أضع إطار صورتي أنا وغادة في أعلى رفّ، كتابٓي الكيمياء والأحياء الضخمٓين في الأسفل، إصّيص نبتة، دفاتر وأشياء.
ننتهي أخيرًا من تفريغ الحقائب وملئ الأدراج ثم نستلقي ونتنهّد، أُطالِع السقف بحدّة وأفكر في كل شيء..

أتنبّهُ إلى الأوراقٍ المطويّة التي لمحتها على زاوية حقيبتي الكبيرة جدًا، أقترب منها وألتقطها، (رسالة) !
"ابنتي غدير..."
يغصّ حلقي فورًا، أكمل رسالة أمي وأدمع بغزارة، تليها رسالة غادة، ثم غيداء أختي الصغيرة تقول فيها بايجاز: "غدير بنشتاقش، من غيداء إلى غدير"..
أبتسم من أعماقي وأستدير نحو الجدار وأكتم بكائي ما استطعت.

__________

"غيداء، غيداء، أذّن الفجر"
ـــ

يأتي الصُّبح وننزل من غرفِنا ونبتسم للمارّة ويبتسِمون. نشرب الشاي ونتناول السندويشات ثم نسرع نحو المبنى المقابل بحثًا عن قاعة المحاضرات رقم واحد
ونجلس مستمعين لثرثرةٍ اسمها (اليوم التعريفي)
وجوهٌ كثيييرة، أحب فكرة وجودي وسط حٓشْد، حشدٌ يسمّى: (مال سنة ثانية)
نعود لغرفنا ونحن مملوئين بتفاصيل أماكنٓ ووجوهٍ جديدة.
____

يأتي العصر وتأتي عائشة وأسماء ومريم لشرب الشاي في غرفتنا، نتحدث ونضحك كثيرًا.
تدقّ البابٓ فتاةٌ تجاور غرفتنا و:"عندكم ولّاعة؟" -"أيوه... عففففوًا تعالي دايمًا.."
يأتي الليل، أحدّق في السقف..

أنتبه إلى حرقة معدتي التي لم أشعر بها منذ أيام بعد أن كانت تأتي لتلقي التحيّة كل نهار. أذكر يوم قال لي أبي ونحن في الطريق يوم السبت أنني سأنشغل عن الحموضة وأنساها، بابا صح. نسيتها تمامًا، مع أنّ الأدوية التي أتناولها هنا وفي البيت هي ذاتها، لكن؛ همممم.. الفرق بين هنا والبيت أنّ أمي وأبي أبعدُ من تلقّي الشكاوي والتربيت على الأكتاف. لذلك، لا شكاوى.

الفجر، الصبح، أول المحاضرات والقاعات الواسِعة، الركضُ بين المحاضرات لشرب الشاي ومقاومة النعاس.

تتصل أمي كل مساء وتستمتع إلى تفاصيل يومي كاملةً ثم تناول السماعة لغيداء أختي الصغيرة..
-غيداء تعرفي من وين تو أكلمش؟
-من وين؟
-من غرفة فيها غسّالات وعلاقات
-ليش ما من غرفتش؟
-لأن هناك أصدقائي وما أريد أكلمش وأصيح قدامهم
-نزين تو نتيه ما صحتي
-صحت بس نتيه ما شفتيني
-... حتى أنا..

وتمضي الأيام..

_____

الخميس، قبل الغروب بقليل.
وجهي ملتصقٌ بالنافذة،
أسمع فتاةً من المقاعد الأمامية للحافلة: "..نحن في المصنعة"
أتذكر، "بمسخصص..” أعكِس، “عبرنا الصاد الأولى والثانية، والخاء والسين، نحنُ في الميم.. بيتنا قريب."

_____

مرحبًا، أنا غدير، بدأت سنة الطبّ الثانية، في السكن الداخلي لأول مرة.
يتعبني الشوق وأعرف أنه سيطول ويزيد أحيانًا ويقلّ،
 لكنني
 تائقة 
و
متطلّعة للحياة.

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

وداع ونجوم وقطّ أسود - مذكرات

عشيّـة

ضجيج .