مذكّرات قديمة


لا أنسى ما حييت ذلك الموقف وذلك المكان وتلك الوجوه.. رنّ جرس انتهاء الحصة الرابعة وبدء الفسحة. قالت يومها أستاذة الرياضيات: "يلا بنات كلكم اخرجوا وتبقى المتفوقات الّي عطيتهم نشاط إثرائي أمس."
"نشاط إثرائي؟ متى؟ وكيف ما عندي؟" قلتُ مرتبكة.
قلتُ بأملٍ في نفسي أن الأستاذة قد نسيت اسمي سهواً، سأمرّ أمامها كأني خارجة مع الخارجين -غير المتفوقين، وهذا مؤلم- علّها تتذكر. وبعد حين خطوتُ فعلاً أمامها و(تحمحمت) عمداً، وياللأسى.. لم تُنادِ عليّ "اوه غدير! نسيت اسمك تعالي" كما تأملتُ أنها ستفعل.
تحطمت.
كانت تلك الجملة غير المنطوقة كهاوية أودت بنظرتي لنفسي إلى أسفل سافلين.
نشاط إثرائي سخيف يحطم ثقتي بنفسي؟ نعم.
كان كالقشة التي قصمت ظهر البعير. لم أكُن بعيراً يحمل الأثقال على ظهره، لكن بدون مبالغة أنا متيقنة أن ذاك اليوم كان نقطة تحولي إلى كائن (يستصغر) نفسه بما تحويه الكلمة من معاني.

منذ تلك الحادثة ولِسبع سنين عِجاف، كنت أحسب نفسي مع عداد الأغبياء في هذا العالم -مع إيماني الحالي الكامل أن الله لا يخلق عقلاً معقّد التركيب بلا نوعٍ من الذكاء، يومها كنت بعقلي الصغير أظنّ أن الذكاء يقتصر على الرياضيات-
المهم أنّي كبرت، وتماشيت مع كل ظنوني السيئة بنفسي التي تراكمت مع السنين، وأعتقد أن أمر اقناعي أني لست غبية كان معضلة حياة أمي.

بعد أكثر من نصف عقدٍ من الزمن، قالت لي أستاذةُ الكيمياء جملةً ظنَّتها عابرة، ربما ألقتها دون لحظة تفكير مسبقة، وفي الغالب لن تكون تذكرها الآن..
"ما أريدش تندمي يوم التكريم، وما أريد ما تكوني منهم. لو جبتي ٨٩,٩٪ ما بتكوني منهم"
أخفيتُ عنها ما قلتُ في نفسي حينها، كيف كنتُ سأواجهها بأنّ ٨٩ أمنية بعيدةٌ عن الواقع أصلًا؟
 ونمت ليلتها محاوِلةً تجاوزَ الجملة التي بقيت تلحُّ على عقلي مراراً.
واستيقظت صباحاً وهي تلحّ، أكملت يومي وهي لا زالت، يومٌ ثاني وثالث وعاشر وشهر.. شهرين وشارفت على الثالث. لم أكن أتوقّع ما ستفعل بي. حتى في وقت استراحتي كانت تأتي لتلقي عليّ التحية.
وأثناء كل سؤال امتحانيّ يأستُ منه ولم أقوَ على محاولة حله مجدداً.
واليوم.. وأنا أحمل باقات الورد، أذكر كم كانت هذه الجملة اللحوحة مؤثرة؟
كم من كلمة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء لم يُلقِ قائلها لها بالا؟

صباح يوم تكريم الأوائل - ٢٩/٢/٢٠١٦
______

-أحبّ لحظةَ رفعي للفراش لأرتمي تحته بعد يومٍ شاق سعيد، أحب أن يكون أول ما أفعله بعد ذلك هو كتابة المذكرات.

- كان صباحي بين وبين، رغم أنّ أختي تنادي بصراخٍ مُزعج لأني ما زلتُ في الداخل وهي ووالدي ينتظرانني في السيارة، أستمرّ في تناول فطوري بتأنٍ، ربّما هو أكثر وقتٍ أكون مسترخيةً فيه رغم الاستعجال وتدفّق الأفكار والتوقعات لهذا اليوم المدرسي.
أقدّس الصباح والإفطار، وفقرة تمعُّني في وجهي، ماذا تغير؟ أصبحت أشبه أمي أكثر؟ هل أقترب من كوني صالحة مُصلحة؟ هاديةً مهديّة؟

- يوتّرني منظر الكتب المكدّسة.. كيف يشعر كل هؤلاء الكُتّاب حيال كتبهم المركونة على الزاوية؟ مهما كانت ركاكة كتاباتهم، لاشكّ أن جزءاً منهم هناك.. لا بدّ أنهم كتبوا بعمق شعورهم ولو لسطرٍ من ذاك الكتاب..
لا أريد أن تركن كتبي، أن يكون جزءٌ مني مركون؟ لا! افضل أن أجعلها لنفسي ولِمن لن يركنها في زاويةٍ عليها غبارٍ بين جدرانٍ كثيرة في مكان مكتظّ بالمثقفين والمتثقفين وأشباههم.

- عموماً، ظهري يئن. ضريبة اللعب تحت المطر ثم الوقوع أرضاً. لستُ نادمة لأني استمتعت حينها على أي حال. حتى قدماي مصابتان بـ"صولان" رغم أنّي لا أفهم معنى هذا الوصف البليغ الذي تردّده جدتي المُتعبة دائماً لآلام أي عضو. إلا أني أشعر أنه وصف يليق بساق قدمي حالياً..

- الكتابة ظُهراً ليست شاعرية بقدر الليل، لكن أشعر أن الكتابة أثناء التعب (نفسياً كان أو جسدياً) شاعرية في كل الأحوال.

يوم رحلة معرض الكتاب، يوم مُمطر. - ٣/٣/٢٠١٦ 

______

اليوم، نفّذت أنا ونوف قرار الأمس، قررنا أن ننزوي في مؤخرة الصف مؤقتاً. تقول نوف أن الجميع سيشعر بقيمتنا وسيعتذر بعد أن اتُّهِمنا بالازعاج والتشويش على الجميع في الحصص، أمّا أنا أحبّ التغيير، لا أظن أن أحداً سيجيء ليقول "رجعوا اشتقنالكم!" لكن التغيير جميل.
في الحصة الأولى من الفراق -😂- أرسلت زهراء لنا طرداً يقول: لا أحد يقدّر السيمفونيات التي أؤديها مُذ ذهبتُما. خسفات.
كانت الزهراء العاقلة في نظر الجميع تُصدر أصواتًا غريبة أشبه بمواء القطط وأحيانًا أصوات حيواناتٍ أخرى، مما جعل الذي حلّوا مكاننا أنا ونوف يتفاجؤون صدورها من هذا الوجه الرزين.
ضحكنا طويلاً وكتبت نوف في دفتر المذكرات الجديد أنّ بوادر الشوق بدأت. أكمل حديثنا على الورق ٤ صفحات ممتلئة. قالت نوف أننا لو استمررنا على هذا يومياً لصدّرنا روايةً بعنوان "زفرات الثانوية الأخيرة".
من الجدير بالذكر أنّها تتحدث عن أي حدث عابر يحدث داخلنا أو أمامنا مثل:
لا أظنّ أنّ أحدًا منتبهٌ هنا في حصة الإسلامية. مسكينة الأستاذة رقية. شيخة تغنّي أغاني حزينة، وأميمة ترسم لنا وجوهًا وسيمة وترسلها بخفية، نوف تمسك آلتها الحاسبة وتشرعُ في حل مسائل فيزياء، أنا مستمرة في الكتابة والجوع والسئم. أ.رقية لا تفتؤ تشرح درسها بتفانٍ. النائمون لا زالوا نائمين بإخلاص..
تردف نوف في الصفحة المقابلة: غدير نفسية، نحنُ بنجلس ورا للأبد لأن محد قالنا انه اشتاقلنا. خلصت الحصة وجت أ. عبير، باي...
- وأشياء شبيهة.

٥/٤/٢٠١٦

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

وداع ونجوم وقطّ أسود - مذكرات

عشيّـة

ضجيج .