إنّهُ كان بي حفيّا..

لو أنّك تفهم ماذا يدور حولك، لو أنّك تخرج من فتحتي عينيّك (الواسعتين في نظرك ، الضيقيتين في نظر الكون) ، لو أنك تنظر إلى نفسك من الأعلى قليلاً ، بنظرةٍ أشمل..
لو تستوعب يا صديقي كم أنّه كان بك حفيّا!

لا تنسى طبعاً تلك الليلة.. يومَ انعزلت بنفسك "الراغبة" التي أنت من رغّبتها، وإذا تُردّ إلى قليلٍ تقنعُ.. لكنّك رغّبتها وحدث ما حدث!
دائماً ما تكون معصيتك الأكبر كشبحٍ يُطاردك ، لا يكفّ عن إغرائك بمنطق أنّه : حدث! ما الذي ستفعله؟ لا بأس حدث وانتهى. لن يزيد الأمر سوءاً على أيَة حال. (خاربة خاربة).
لكن يومها .. كنتُ في البدء كأيّ عاصٍ "تقليدي" ..
أعني تغلّق الأبواب اختباءً من الخلق وجُرأةً على ذاك الذي يراك حيثُ كنت ، بكل أبعادك.. 
القصّة ليست هنا، القصة أنك -فجأةً- سرحت عن ابليس الذي سامرك لنصف سهرة ثمّ..
ثم لِوهلةٍ فكرت ، لو أنك فُضِحت أمام كائن لا يسعُه إلا رؤيتك بعينيه -الضيقتين عادةً مثلك-؟
لكان الأمر سهلاً، لكُنت ببساطة تستّرت بكذبة .. لكن ماذا لو كنتَ شاخصاً بوضوح أمام ذاك الأكبر منك ومن ذنبك دائماً ، متعرياً من كل ادّعاءاتك وتستّرك.. مكشوفاً من كل زيف؟
أنت كذلك فعلياً.. 

يومها دار كل هذا في رأسك دفعةً واحدة ، إذ كنت تعلم دائماً أنّه يراك . طبعاً! لكن ذاك اليوم تحديداً ،
 أُرسلت إليك هذه المعلومة في ظاهرها كأيّ سيالٍ عصبي يُعلمك بأيّ حدثٍ جديد في جسدك (المُثقل بالذنوب) ، أو كأي خلية ذاكرة تتقيّؤ معلوماتها فجأة وتسكبها أمامك ، أقصد لم تكن استثنائيّةً في ظاهرها بل وصلت بكل بساطة. ثمّ.. أُلقيت على عقلك الواعي وكأنها قنبلة..
 بدأت آلية "الكرّ والفرّ" بعد الخبر وكأنه جديد كلياً!! وتسارعت حينها خلاياك كلها تبحث عن ملجأٍ و منجا من هذه القنبلة، وتقول بأعلى صوت يسمعه كل جزءٍ منك: "إنّي أخافُ إن عصيتُ ربّي عذاب يومٍ عظيم" وتقولُها بحرقة، وتُعيد، ويستمرّ عقلك في البحث عن حل.. وتتجرّع الندم.. مرّ! علقم!!
و بعد حين.. تجدّ نفسك في هبوط لذيذ غير أي هبوطٍ آخر مُهين في العادة.. هبوط بللّ سجادتك دموعاً لذيذة..
وبعد ما بعدها.. تنام نصف متألّم ونادم ، ونصف مطمئن. لا تعلم مصدر الاطمئنان إطلاقاً! لكنك نمت على أيّ حال..

وعلى حدّ قولك ، بدلاً من نومٍ رتيب يُساعدك على يومك المُرهق.. تنام نومةً حافلة ، ربما بدت في أولها محملةً بالكوابيس ، لكن..
ما حدث أنّك رأيتَ نفسك تأكل أموال الناس ظلماً . كان غريباً جداً لأنك لم تفعلها أصلاً في يقظتك! عموماً، من قال أن الأحلام صريحة وواضحة دائماً؟
المهم ، كنت وأثناء اقترافك لهذا الذنب ، تدرك حقّ الإدراك (وتدرك حتى الآن) أن وجهك كان قاتماً من الذنب. وتستحي أن تلتقي عينيك بأعين أولئك الذين ظلمتهم ، حتى وإن كانوا غافلين عمّا فعلت أصلاً.. كنت تستحي بما تحتويه الكلمة من معنى، وتمضي أوقات حلمك (الطويل الشاقّ ظاهرياً، والقصير فعلياً) في الحياء والتهرّب من أعين الناس.. ومن نفسك!
وبعد نصفِ حلمٍ -مُرهق- ، تذكرُ بوضوح لحظةَ عصرك ضميرك حتى قررت أن تُرجع لكل ذي حقٍ حقّه. مهما كان الثمن.
تساءلت بهلع: ولو عشتُ فقيراً؟ أجبت بحزم: ولو عشتُ بدون قطرة ماء.
انتهى الحلم بعد أن أعدت كل ما أخذته بهتاناً، وتذكر الآن جيداً كيف أنك بعدما أعدت كل شي كنتُ تنظر في أعينِ الناس وتبتسم من قلبك ، وأظنّ أنّك شعرت بنور وجهك وتحسست بأصابعك كيف تغير! وكنت تمسحُ على صدرك وكأنه أُخمِد قبل قليل من حريق داخله..

والآن، وأنت في صحوك.. فهمت أن المنام قد يُريك صحوك بطريقةٍ أوضح، بالضبط كذلك اليوم وتلك المعصية، ثم القنبلة التي أُلقيت عليك، وبعدها الهبوط ذاك.. ألم تفهم بعد ما العلاقة بينه وبين الحلم؟
وتندهشُ وأندهش معك أنّ كل هذا حدث بعد سجدة! كأنّه عز وجل يرسل إليك رسالة.. يجيبك على حديثك وصمتك ودمعتك ولعثمتك خلال تلك السجدة.. كأنه يخبرك أنّه قبَل توبتك.. يُطمئِنُك.. رغم عِظَمِ ذنبك.. رغم أنّك توقّعت أن هناك طقوس أصعب لما يُسمى بالتوبة. فهمت الآن أن دمعاتٍ حارقة خالصة كانت كافية.

وتسألُ كيف كان بك حفيا؟

تعليقات

  1. عظيمة غدير. لا أستطيع الزيادة على هاتين الكلمتين.

    ردحذف
  2. نابِغة،ما شَاء الله عليكِ

    ردحذف
  3. قلت لك أن كتاباتك ممتعة أليس كذلك؟ شكرا غدير.

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

وداع ونجوم وقطّ أسود - مذكرات

عشيّـة

ضجيج .